مروان عبد الرزاق
-1-
مثل أية ثورة في العالم، واجهت الثورة السورية منذ انطلاقتها قبل اكثر من ثلاثة أعوام، النقد والتشكيك بها، وتوصيفها على أنها ليست ثورة شعبية، بحجة أعداد المتظاهرين القليلة، وغياب القيادة والبرنامج السياسي. وعندما تشكلت الهيئة العامة للثورة، واتحاد التنسيقيات, وأعلنوا أن أهداف الثورة هي اسقاط الاستبداد، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تمثل كل الشعب. انصب النقد على شباب الثورة باعتبارهم غير معروفين وغير مشهورين. ومع تزايد حجم المظاهرات وانتشارها في كل المدن السورية، أصبح توصيف الثورة على أنها ثورة فلاحية ذات وشعارات إسلامية. وعندما نهضت مدينة حماة بالكامل ريفاً ومدينة، أصبح السؤال: أين المدن الكبرى حلب ودمشق؟
هذا النقد حمل لواءه أغلب المثقفين السوريين، من كتابٍ، وصحفيين، وفنانين، والطبقة الوسطى عموماً. لأن كل واحد فيهم كان يريد ثورة وفق فهمه ومصلحته الخاصة. هذا «الناقد الأعور» الذي كان يرى الأعداد القليلة للمتظاهرين الذين يلاحقهم الرصاص، ولا يريد أن ينظر إلى المظاهرات الكبرى في حماة وغيرها. ويشعر بالأسى والأسف الكاذب على موت المتظاهرين السلميين، ولا يدين الطاغية القاتل. هذا المثقف الموارب، كان يبحث عن المبررات لوقوفه المتخاذل ضد الثورة دون أن يصرح بذلك علناً، وقد أرعبه شعار «إسقاط النظام». لكن بالمقابل كان المناخ الشعبي العام مؤيداً للثورة على الرغم من سقوط الشهداء كل يوم، وكان هذا كافياً لاستمرار الثورة.
-2-
وبفعل العنف الفظيع للنظام وتحول الثورة إلى ثورة مسلحة، انضم إلى الجوقة العديد من السياسيين القدامى، والجدد الذين نهضوا إلى جانب النظام وبرعايته خلال العقد الأخير، وصرخ الجميع: الآن انتهت الثورة. والحجة هنا: أن العنف لا يولد إلا العنف، والدم لا يولد إلا الدم، وأن الانتقال السلمي التدريجي هو الأفضل نحو الحرية والديمقراطية. وانقسمت رموز المعارضة القديمة المهزومة تاريخياً إلى شظايا متباعدة. «هيئة التنسيق» رفعت شعار لا للعنف، وارتاحت في حديقة النظام الخلفية. و»المجلس الوطني» تشكل في استنبول ووضع لنفسه مهمة توفير الدعم للثورة على الطريقة الليبية. وباقي المثقفين تناثروا ليعمل كل واحد فيهم دكاناً يجمع فيه بعض المريدين.
-3-
تراجع النقد قليلاً مع تصاعد الخط البياني للثورة حتى نهاية العام الثاني من عمر الثورة. حيث كان الجيش الحر يتقدم على الأرض في كل المناطق والمدن، والأمل بالدعم العربي والدولي، ووجود حاضنة اجتماعية واسعة للثورة، والفرح مرسوم على الوجوه لأن النظام سيسقط قريباً!.
لكن بعد دخول مدينة حلب بأشهر قليلة بدأت المراوحة في المكان، وبرزت استحقاقات هامة واجهت الثورة، وكان أهمها: أولاً، وجود قيادة سياسية للثورة في الداخل. وثانياً، الانتقال من العفوية العسكرية التي تشكلت بموجبها الكتائب المسلحة، إلى تشكيل جيش وطني ثوري بقيادة عسكرية موحدة. وثالثاً، إدارة المناطق المحررة.
ولأن القائمين على الثورة، «المجلس الوطني، ثم الائتلاف»، وقادة الكتائب العسكرية, والذين احتكروا تمثيلها فشلوا في الاستجابة للاستحقاقات المذكورة، فإن الثورة لم تنتصر حتى الآن. وهذا الفشل أفرز بدوره نتائج كارثية على الثورة. أولها: الفوضى غير «الخلاقة»، واختلاط الحابل بالنابل، الثوري والانتهازي، الجيش الحر واللصوص، وغياب الأمن والآمان. وثانيها: غياب الجانب المدني والسياسي عن أرض الثورة. وثالثها: سيطرة التكفيريين على مساحات واسعة من المناطق المحررة. ورابعها: فقدان الجيش الحر لحاضنته الاجتماعية. وخامسها: فقدان القرار الوطني المستقل. وفي النهاية تم تشكل بما يمكن تسميته «مستنقع الثورة».
مع تشكل المستنقع الجديد، وانحسار المد الثوري, برزت تشكيلات جديدة من النقاد من مثقفين وسياسيين متنوعة المشارب والاتجاهات، كانوا قد هاجروا من الداخل السوري، ومن المقيمين في أوروبا منذ عقود، ليستقروا في تركيا بقصد حجز مكان لهم في قاطرة الثورة. وجميعهم يدعون الإنتماء للمعارضة والثورة. وقد شكلوا خليطاً عجيباً من انتهازيين وشبيحة سابقين، ومنافقين، ومعتوهين سياسياً وثقافياً، وكذلك مدراء شركات وأصحاب أموال.
وتحول الاتجاه من نقد النظام إلى نقد المعارضة والثورة بشكل كامل، وبرز بشكل عام النقد الانتهازي للثورة والمؤسسات الإغاثية والسياسية التي أفرزتها. ولم يكن الهدف من النقد التقويم أو الإصلاح، وإنما تشويه صورة الآخر حتى يأخذ مكانه. وبدأت تظهر إلى السطح مقولة النظام عندما وصف الثوار كمجموعات إرهابية، ولصوص. وأيضا تمّ الترويج إلى أن الثورة قد سُرقت من قبل التكفيريين الذين على الأرض، وكذلك سُرقت على المستوى السياسي، حين فقد الائتلاف القرار الوطني المستقل، والذي أصبح بيد الدول الإقليمية والدولية. وبرزت نظريات مثل «ثورة بدون ثوار»، واستنتاجات مأساوية تلخصها مقولة أن انطلاقة الثورة كانت خطأً كبيراً، لأن المجتمع السوري لم يكن جاهزاً للثورة. وكأن الشعب بحاجة لأن يطلب الإذن من أحد ما حتى يُسمح له ببدء ثورته أم لا!.
لكن المأساة تتجلى في بروز النقد الذاتي، والذي اختص به أكثرية أعضاء الائتلاف الوطني الذين يدّعون تمثيل المعارضة والثورة. وقد تمحور هذا النقد حول:
أولاً: معزوفة الهزيمة، وكان دائماً يتمّ تحميل المسؤولية للمجتمع الدولي لأنه لم يتدخل لوقف الدماء، دون أن يشعروا بمسؤوليتهم في فشلهم للاستجابة لاستحقاقات الثورة في الداخل، وعدم التفكير أصلاً في ضرورتها.
وثانياً: التباكي الكاذب حول فقدان القرار الوطني المستقل. ودون أي خجل وشعور بالمسؤولية، ودون أن يعترفوا بأنهم هم الذين وضعوا الثورة على مائدة الدول الغربية والإقليمية لتسييرها واتخاذ القرارات المناسبة لإفشالها.
وثالثاً: نقد الائتلاف لذاته لأنه فشل كقائد فعلي للثورة. والجميع في الائتلاف متفقون على ذلك. وهو اعتراف يشكل مقدمة هامة للإصلاح. لكن الجميع يرفض تحمل المسؤولية، وكل مجموعة، وكل عضو يتهم الآخر بأنه هو المسؤول. الكل يتهم الكل. بالإضافة إلى المتهم الدائم وهو المجتمع الدولي والإقليمي. ومعيار الاتهام هو عدم تناسب الآخر مع الشخص الناقد ومصلحته الشخصية وداعميه. إلى حد أن أحدهم صرح علناً -بعد نتائج الانتخابات الأخيرة داخل الائتلاف، والتي لم تعجبه، ولم تأتِ على مقاسه- بأن «غالبية أعضاء الائتلاف لا علاقة لهم بالثورة، لا بفكرها ولا بنشوئها. يبحثون عن مصالحهم وأرزاقهم وعن ترضية السلطة على الطريقة البعثية». ويبشر الشعب بالخطر بأن «لا تكون هناك ثورةٌ خلال أشهر قليلة، إذا واصلنا النهج الذي اعتُمد في الائتلاف خلال العام الماضي». وهذه صفة مشتركة للأغلبية الساحقة لأعضاء الائتلاف، المنشغلين في الصراع على السلطة الوهمية، واستمرار التسلط و«التعيّش» على حساب الثورة وباسمها، وفق ديمقراطية «المكونات» «السيئة الصيت».
وبدلاً من أن يكون النقد الذاتي مدخلاً حقيقياً لإعادة البناء من جديد، وتصحيح دائم للمسار، نجده يهدم ويشوه ما تم بناؤه، ويُبرز المصلحة الشخصية أو الفئوية كبديل عن المصلحة الوطنية. إنها محاولة للتعمية، والتهرّب من المسؤولية ومواجهة فشلهم، والاعتراف الحقيقي بأسباب هذا الفشل، وبالتالي الاستهانة بعقول الشعب السوري الذي أصبح الائتلاف برأيهم أقرب إلى المأساة. وعندما يتحول النقد الذاتي إلى النقد الأعور تكتمل أركان المأساة التي تجثم ككابوس فوق صدور الشعب السوري.
أيّ بؤسٍ وبلاءٍ هذا الذي ابتُليت به الثورة السورية!!
-4-
الثورة لم تنجح حتى الآن، لكنها لم تفشل. هي ثورة مستمرة إلى أن يسقط الطاغية، وكافة أشكال الاستبداد القديمة والجديدة. وخاصة أن الطاغية لن يكون قادراً على إعادة الشعب إلى حظيرة الطاعة من جديد. إنها ثورة دائمة، مازال يحمل لواءها العديد من الكتائب المسلحة الثورية، والتي لم تختلط باللصوص والانتهازيين، وإن يكن صوتهم أصبح خافتاً في هذه المرحلة. ومجموعات سياسية جديدة ستبرز من رحم المخاض الجديد الذي تمر به الثورة، والتي سيفرزها النقد الشعبيّ الحقيقيّ والنابع من معاناة الملايين من السوريين المشردين في دول الجوار، والنازحين في الداخل الذين لا يجدون قطرة ماء، والمنسيين في السجون. وستلفظ صيرورة الثورة كل من تسلط عليها من تكفيريين وأشباههم إلى مزبلة التاريخ, وستنتج من جديد صفحتها المشرقة رغماً عن الجميع.
إن من يبشر بانتهاء الثورة -مع حسن النوايا- لا يمتد نظره لأبعد من أنفه. إنه لا يرى إلا ذاته الفاشلة والتي لم تكن الثورة وفق مزاجه الضيق والمهزوم. فالثورة أكبر من أي فرد مهما كان.
والثورة ليست بحاجة إلى حلول سحرية، أو شعارات خطابية لا فائدة منها. الثورة بحاجة إلى نهضة حقيقية من شباب الثورة، فحواها العمل الفعلي للإجابة على أسئلة الثورة، ولماذا لم تنتصر الثورة حتى الآن، وقراءة حقيقية للواقع الراهن، وكيف يمكن الانطلاقة من جديد.
اضف تعليق