عماد غليون
بعيداً عن الدخول في متاهات التحليل
السياسي والعسكري، والحديث عن السيناريوهات لمختلفة بشأن كيفية سقوط النظام وتحديد مدى زمني لذلك، يلاحظ عدم وضوح الرؤية لدى المعارضة فيما يخص مستقبل سورية كدولة وشعب بعد السقوط المتوقع للنظام، ربما يكون الانشغال التام بإسقاط النظام دون التفكير بأي شيء ما وراء ذلك هو السبب.
طرحت المعارضة منذ بداية الحراك الثوري إسقاط النظام بكل مرتكزاته ومنظومته الامنية والعسكرية، ووجهت جهودها بهذا الاتجاه بشكل رئيس. واستمر الحال على ذلك أكثر من عام قبل أن تكتشف أن الإطاحة بالنظام ستؤدي للإطاحة بمؤسسات الدولة برمتها بشكل أكيد، وتحولت المعارضة عبر نصائح من الأصدقاء للتفكير في تقديم رؤية وتصور عن صورة سورية المستقبل، فكانت اجتماعات متتالية انتهت بإقرار ميثاق العهد الوطني من أجل سورية في القاهرة، والذي وقعته أطياف المعارضة المختلفة.
يعتبر الميثاق خطوة جيدة باتجاه عملية تقنين تضمن حقوق وواجبات متساوية لمختلف مكونات الشعب السوري القومية والمذهبية، وتم النص على ذلك بعد نقاشات صعبة، مع إقرار مبادئ واضحة للعدالة الانتقالية في البلاد عبر الحديث عن سورية المستقبل بأنها دولة مدنية ديمقراطية تعددية، نظام الحكم فيها يعتمد تداول السلطة ويمنع احتكارها لصالح حزب أو فئة.
توقفت الجهود عند هذا الحد، وكان ينبغي الاستمرار في نقاش وتطوير هذا الميثاق وفق التغيرات في المواقف السياسية الدولية، والتي تحولت لاعتبار الحل السياسي هو الحل الوحيد للصراع الدائر في البلاد، حيث تم النص على ذلك صراحة في القرارات الدولية ذات الصلة بسورية، والصادرة عن مجلس الأمن والمنظمات الأممية والإقليمية.
رؤية الميثاق حول مستقبل سورية تبدو رؤية وردية حالمة، وتدل على بساطة في الطرح والمعالجة، ولا تلحظ سوى معارضي النظام ورغباتهم، بينما لا تلتفت لرغبات مؤيدي النظام وتوجهاتهم في مستقبل البلاد، فضلاً إلى أنها لم تذكرهم أصلاً، وربما اعتبرتهم من غنائم الحرب، وساقطون بسقوط النظام، ويجب فرض رؤية المنتصر عليهم فيما بعد بشكل طبيعي.
قصور المعارضة ذاك ولد حالة من عدم الطمأنينة في صفوف المؤيدين، وخاصة من الأقليات الدينية التي لم تستطع المعارضة مد جسور التواصل معها، وتقديم مزيد من الضمانات لها، وخاصةً عبر رفض منهج وسلوك بعض الجماعات المقاتلة المتشددة في صفوف المعارضة المسلحة ضد النظام، والتي ترتبط بتنظيم القاعدة بشكل مباشر، والتي كانت جبهة النصرة أول تنظيم معلن لها.
قام الشيخ معاذ الخطيب، كرئيس للائتلاف الوطني، بشكل غريب ومفاجئ برفض القرار الأمريكي بتصنيف جبهة النصرة كمنظمة إرهابية تابعة للقاعدة، وشكل ذلك تحدياً لوزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون وقتها -في مؤتمر أصدقاء الشعب السوري في روما- مما أدى لتراجع أمريكا عن وعودها بشأن تقديم أسلحة نوعية للجيش الحر.
ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على شكل خليط من مقاتلين متشددين أجانب وسوريين، ولكن القيادة فيه كانت للأجانب، أو كما يسمونهم بالمهاجرين. ورغم ذلك فإن الائتلاف لم يتخذ موقفاً واضحاً أو حاسماً بشأنه منذ البداية، وعندما استفحل أمر التنظيم، واشتد عوده، وتحول باتجاه العنف ضد كتائب الجيش الحر وقياداتها، عندها بدأ الائتلاف يطلب الدعم لمحاربة التنظيم، ولكن بعد فوات الأوان.
بعد إعلان دولة الخلافة، تحول مسار الأحداث في البلاد بشكل جذري مع بروز قوتين رئيستين في الميدان، هما النظام وقوات تنظيم الدولة، وباتت المعارضة واقعة بين مطرقة النظام وسندان داعش، وكان عليها المسارعة هذه المرة للإعلان عن محاربة التنظيم، وطلب توجيه ضربات جوية أمريكية له، وكان ذلك هو الموقف نفسه الذي أعلنه النظام مما أدى توافق لأول مرة بالمواقف بينه وبين المعارضة وإن يكن بشكل غير متفق عليه.
الأمور تسير باتجاه تحالف دولي لمحاربة الإرهاب مع استبعاد النظام منه، ثم يتم العمل على طرح حلّ سياسيّ في البلاد، ربما عبر مبادرة عربية تعرضها مصر وقطر وتتبناها المجموعة العربية، وهي تدعو، حسب التوقعات، لإجراء حوار من أجل تشكيل حكومة انتقالية توافقية بصلاحيات كاملة، ولا يعرف كيف ستتم معالجة مصير رأس النظام، أو مساعديه الأساسيين في المبادرة.
لا يمكن تحقيق عدالة انتقالية في البلاد دون خطوات واضحة مرسومة للوصول إليها، ولعل الأهم هو الانتقال من فكرة التفاوض على كيفية استلام السلطة وانتقالها بين طرفين يمثلان المعارضة والنظام، إلى مؤتمر وطني عام يشمل كافة أطياف ومكونات وحساسيات الشعب السوري، خاصةً وأن الأحداث أكدت أن كلا الطرفين لم يكن لديه القدرة على تمثيل الشعب السوري بشكل حقيقي، كما أنهما مارسا سياسات الإقصاء والتهميش على الآخرين، ولم ينجُ الائتلاف من الوقوع في الفساد الذي كان حكراً على النظام وأعوانه.
إطلاق المؤتمر الوطني ليس أمراً سهلاً، ويواجه انعقاده صعوبات جمّة، تتعلق بشكل رئيس بطريقة التمثيل ونسبته، وآلية تحقيقه، وهذه كانت معضلة المعارضة المستمرة، مع الانتباه إلى أنّ تجارب الدول المجاورة، وخاصة العراق، أثبتت أن الهروب إلى الأمام، وعدم مواجهة المشاكل الصعبة منذ البداية، والعمل على تشكيل مجلس حكم على شاكلة مجلس بريمر، سيكون لذلك آثارٌ كارثية على البلاد في المستقبل.
لو تم اختيار التمثيل الوطني على أساس قوميّ وطائفيّ لأصبحنا في محاكاة لمؤتمر الطائف اللبناني، والذي لم يُؤمّن الاستقرار السياسي في البلاد، رغم انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على انعقاده.
بعد التشظي الواسع في مكونات المجتمع السوري، بات السوريون يواجهون مشكلة مستعصية في تقديم ممثلين حقيقيين للمجتمع، خاصةً مع انحسار الهوية الوطنية لصالح الهويات الأضيق سواء الطائفية أو القومية.
لا مناص من المواجهة، ولا بدّ من عقد مؤتمر وطني سوري عام يمثل السوريين قدر المستطاع، لينبثق من خلاله عقد اجتماعي جديد للبلاد، وذلك عبر توافق الجميع على خارطة طريق تُحدّد ملامح المرحلة القادمة بكل تفاصيلها، والرعاية الدولية للمؤتمر لا بد منها، ويجب أن تتحول قراراته لتصبح جزءاً من الشرعية الدولية التي يطبق عليها مبادئ الفصل السابع، مع أن هذا يُشكّل بلا شك نوع من الوصاية على البلاد تحدّ من السيادة الوطنية، ولكن لا مفرّ من الوقوع فيه بعد أن عجز السوريون عن إيجاد حل بأنفسهم.
لا يمكن الانتقال لمجتمع مستقر متصالح دون العمل على تحقيق العدالة الانتقالية في البلاد، ولا يمكن الوصول لذلك إلاّ من خلال المؤتمر الوطني العام، ويجب أن يتمّ تحديد المفاهيم والأسس والإجراءات الواجب اتخاذها، وإقرار ذلك استناداً للحالة السورية، وليس اعتماداً على ما تم تحقيقه من تجارب للعدالة الانتقالية في دول أُخرى، كجنوب أفريقيا مثلاً.
من المهم البدء بخطوات عملية لرأب الصدع بين صفوف السوريين من مختلف المكونات القومية والدينية، وبمختلف اتجاهاتهم السياسية، وأن يكون هنالك خطة لإعادة تأهيل المجتمع بشكل كامل على المصالحة وروح التسامح، وأن تكون هنالك برامج خاصة تقوم بعملية إدماج الأطفال السوريين في نشاطات مشتركة، وبرامج ثقافية وتعليمية مكثفة وموجهة لهذا الغرض.
لا يمكن للمصالحة الحقيقية في المجتمع أن تنطلق قبل أن تبدأ مبادئ العدالة الانتقالية في التحقق على أرض الواقع، وذلك لإعطاء الناس الثقة والمصداقية بأنه سيتم تطبيق ما تم الاتفاق عليه، ومن خلال ذلك تكون السيادة لمبادئ الدستور والقوانين، ويمكن الحديث عندها عن مجتمع متصالح متسامح يستطيع تحويل البلاد من ركام إلى وطن حقيقي لكل السوريين الاحرار، لكن منذ البدء يجب أن يكون الجميع مشاركين في كل تفاصيل العملية بدون إقصاء أو تهميش لأحد، بعيداً عن نغمة المعارضة والنظام.
اضف تعليق