جنان علي
-إنت من وين ؟
(بعد تردد ..(
-من سورية
-وين أحلا هون ولا سورية ؟؟
-هون
-ليش ؟؟
(نظرة تردد ولا جواب(
كانت هذه حوارية صغيرة فاجأت بها طفلاً لاجئاً يبيع الورود في مدينة عينتاب التركية، مثله مثل الكثير من أطفال سورية والمشتتين في الكثير من بلدان الجوار، وكانت إجاباته وتردده أمراً طبيعياً في ظروف استثنائية مرت عليه خلال سني الحرب في بلده الأم الذي يحاول أن يتناساه، أو على الأقل يحاول بسني عمره الصغيرة أن يبحث عن هوية جديدة تحقق له الحد الأدنى من عوامل الأمان، فلكل مجتمع بنية تحتية تحث أفراده على العمل بشكل موحد في إطار تكوين اجتماعي، وذلك من خلال بعض المفاهيم المتناقلة والقيم والعادات (كالأعياد،(التي تعمل بنسق متكامل يجمع الأفراد من حيث الولاء، العمل الموحد، التعاون، والانتماء، ومن ثم الهوية.
ويظهر لنا التطبيع الاجتماعي (في الظروف الحياتية الطبيعية) كأداة لنقل قيم المجتمع إلى الطفل من خلال الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، الأصدقاء، وذلك بتأصيل العمليات الخاصة بالتربية التي يتلقاها الطفل ويكبر عليها ويصبح عن طريقها فعالاً في دمج الأدوار والاتجاهات والقيم والمهارات التي تشكل شخصيته وتتسق مع حركة المجتمع المتغيرة أو الثابتة.
ومن أهم عمليات التطبيع الاجتماعي ما تقوم به الأسرة بهدف تأصيل الانتماء، والتي تعني أن الفرد من طفولته المبكرة يحيا في ظلِّ مجموعة من القيم والأفكار والمبادئ التي تترسَّب في وجدانه، حتى تتحول لديه إلى وجود غير محسوس، ومن خلال ذلك يصبح الطفل منتمياً إلى المكان، وإلى الأسرة، وإلى الجماعة، وإلى المجتمع والوطن..
وقد لاتعي الأسر الأهمية التي تتركها طرق التنشئة وأساليب التربية في تكوين شخصية الطفل، من حيث تعزيز أدوار الذكور والاناث، الانخراط في مجموعة اللعب، تشكيل أدوار قيادية، حب التفوق والظهور، التعاون..إلخ.
فيتطلب ذلك زيادة في وعي الأسر حول اتجاهات المجتمع وتاريخه وحضارته، أي بكل مكونات ثقافته التي يفرزها، مشكلاً طابعه الخاص على أبنائه مميزاً بهم عبر الانتماء له.
وإن نظرنا للانتماء بإطار الحاجة الاجتماعية لدى كل فرد، يظهر لدينا ذلك بشكل هرمي مصنف وفقاً للحاجات البشرية، والذي وضعه العالم «ماسلو» Maslow›s hierarchy of needs للدلالة على ارتقاء الانسان بالسلم الهرمي لاحتياجاته، ابتداءً من الحاجات الغريزية الأساسية (الفيسيولوجية)، وانتهاءً بوصوله للتوازن النفسي عبر تحقيق الذات، كدلالة للوصول لقمة هرم الاحتياجات البشرية.
وهو كما في الشكل(١(:
ويشير «ماسلو» إلى أن الإنسان في حاجة دائمة يقف وراءها دائماً الدافع، هذه الحاجة تؤثر بالطبع على سلوكياته وإذا لم يتم إشباعها تسبب لديه عدم توازن نفسي وبالتالي تولد الاحباط، فينبغي للفرد أن يتدرج في اشباع حاجاته من أسفل الهرم لقمته، فبمجرد إشباع الفرد لاحتياجاته الأولية تظهر لديه حاجة آخرى، وهكذا حتى يصل لقمة الهرم، حيث يبقى في حالة سعي دائم لتلبية هذه الحاجات.
فيرى «ماسلو» أن المجتمعات التي يحيا فيها الانسان، تقدم له الثواب والمكافأة على دوافعه والتي ترتكز بشكل أساسي على التقدير والحب وغيرها من الحاجات الاجتماعية.
وإن كنا سنناقش مفهوم الانتماء كحيز اجتماعي يتبع له البشر بسياق التنظيمات الكبرى على مستوى الانتماء الوطني، فستظهر لنا الحاجة الاجتماعية كمطلب ضروري لتحقيق نوع من التوازن النفسي، حيث يسعى له الناس بشكل غريزي محاولةً منهم لتعزيز الثبات الاجتماعي، عبر عملية متبادلة بين الفرد والمجتمع معبراً عنه الفرد بالانتماء والذي يقتضي وجود نوع من الإشباعات المادية والمعنوية والنفسية لدى الفرد في مجتمعه، وهذه الإشباعات من قبل المجتمع هي التي تدفع الفرد للشعور بالانتماء، ونرى أن هذا المطلب يتكون لدى الطفل عبر عدة عوامل (الأسرة أولاً، المدرسة، أصدقاء، العمل)، بحيث يحقق شرط التوازن والحاجة للأمان (ماسلو)، وبالتالي يصبح مستعداً لتلبية المراحل الأعلى في السلم الهرمي)تحقيق التقدير والذات(
وبالنظر لهذه العوامل بظروف الحروب والتي يكون فيها الطفل كحاضة لكل نتائجها على الصعيد الاجتماعي_النفسي، فإنها تأخذ بالتشكل بطرق مغايرة لواقع الطفل ومَرَضّية في بعض الأحيان (الأسرة، المدرسة، الأصدقاء) كمثال على ذلك )العنف بين الأطفال، أو استخدام الألعاب الحربية، تعنيف الطفل من قبل الأهل، الإهمال(
ووفقاً لما سبق فإن هذا المفهوم الاجتماعي المتمثل بالإنتماء اختلف وتغيرت كينونته عند الطفل وبالتالي نشأ بهذه الكينونة الجديدة معبراً بها عن حالة من اللاانتماء، وفقدان ثوابت كانت تعزز ذاته وتكرس الوجود الاجتماعي.
وكما هو معروف الآن أن الطفل هو الأكثر عرضةً وتأثراً بضغوط الحرب، من مشاهد العنف والقتل والدمار وإلى التهجير والنزوح وفقدان الأهل. حيث كلها تسبب نوع من الصدمة النفسية «Posttraumatic stress disorder» لدى الطفل، وبالتالي ونتيجة الظروف الجديدة التي تفرزها الحرب من نزوح وتغير الظروف المعيشية على الطفل وأسرته، يولد لدينا مفاهيم وقيم جديدة يحاول من خلالها الأهالي التوافق مع هذه الظروف المتطفلة على واقعهم (تغيير المسكن، عدم توافر عمل وبالتالي انعدام دخل ثابت، حرمان الأطفال من المدارس، نزول بعض الأطفال للعمل، فقدان القيم المعيارية التي نشأووا عليها على صعيد الحي والمدينة)، ومعها تتغير حركة المجتمع الصغير الذي يضم هؤلاء الناس وبهذا التغير تطرأ أسس اجتماعية جديدة خالية من الإنتماء) الإنتماء لوطن، لمجتمع حقيقي، لبيئة، عمل، مدارس).
إن الأطفال الذين فقدوا أسرهم من جراء الحرب يميلون لعدم القدرة على تشكيل الصداقات، وعدم الرغبة في الانتماء إلى الجماعة، وبما أن مفهوم الطفل عن ذاته يكتسبه في مراحل نموه الأولى، فإن الانفعالات مع الأشخاص المهمين في حياته وخصوصاً الوالدين تلعب دوراً مهماً، فالفروق في الأجواء الأسرية وطرق التنشئة يحدث فروقاً بين الأطفال في مكونات الشخصية، وبالتالي في تقدير الأطفال لأنفسهم. هذا وإن نظرنا إلى فروق أخرى طارئة، كوفاة الوالدين أو أحدهما، تفكك أسري، ضياع بعض الأطفال عن أهلهم. كلها حالات تفرض نوع مختلف للتنشئة والذي يؤثر كما ذكرنا سابقاً على شخصية الطفل وبالتالي على كيفية استقباله للمؤثرات الخارجية، وتحديد أدواره والحيز الذي من الممكن أن يشغله في الجماعة، وبالإضافة لكيفية التواصل مع الأفراد.
وبكل هذه المؤثرات التي أحاطت الطفل السوري، والتي جعلته ضمن خانة «طفل الحرب والأزمات» ففرضت عليه عبء هذه التنشئة الطارئة حاضراً، وتبعاتها الاجتماعية من تشتت واغتراب وضياع الانتماء إلى تشوه في مفهوم الوطن مستقبلاً، حيث تشكلت لنا أزمة وجود حقيقية ضمن الأزمة الحالية نفسها، فما هي السياقات التي خلفتها هذه المؤثرات إذا أردنا اسقاطها على مراحل عمرية أكبر (المراهقين، الشباب(
ـــــــــــــــــــــــ
هذا ماسناقشه في العدد القادم
اضف تعليق