مأمون جعبري
في بدايَة الشّهْر الثّالث منْ عَام 2011، ولأوّل مرّة مُنْذ أَكْثر منْ أرْبعين عَاماً يَخْرج السُّوريون بأَعْداد كَبيرةٍ إلى الشّارع في مُعْظم المُحافظات يُطالبون النِّظام السّوري بحقُوقهم المَسْلوبة، رافعينَ شعَاراتهم في الحرّية والكَرامة، ومُتمسكين بِوَحدة انْتماء الشَّعب السُّوريّ بكَامل أَطْيافه عبْر شعَار الشّعْب السُّوريّ وَاحد، وكَانت هَذه المُظاهرات بكلّ دَلائلها تَظاهرات سلْمية حَضارية، ومنَ المُفْترض أنّها مَكْفولة كحقّ منْ وجْهة نَظر القَانون الدَّوليّ ،وبَدأ النّظام السّوريّ بمُواجهة المُتظاهرين في بَادئ الأَمْر باعْتقال قيَاداتهم، وإطْلاق الوُعود الإعْلاميّة عنْ بدْء مَرْحلة إصْلاحٍ قانونيّةٍ عَميقة، مثْل إعادَة النَّظر في قَانون الطَّوارئ، وإنْهاء سَيْطرة حزْب البَعْث على الحَياة السُّوريّة بكلّ تَفاصيلها. هَذا بالإضَافة إلى الوُعود المُتكرّرة التي أطْلقها رأْس النِّظام السّوريّ بمُحاسبة الأَفْراد الذين قَاموا بمُمارسة العنْف المُفْرط تجاهَ السُّوريين المُنْتفضينن، منْ أمْثَال الضَّابط عاطف نجيب المَسْؤول عنْ تَعْذيب أَطْفال مَدينة درْعا.
اسْتمرّ الشَّعْب السّوريّ في تَظاهراته بعْد تَيقّنه أنّ وُعود النِّظام وعودٌ واهية، واسْتمرّ النّظام في إطْلاق الوُعود والإشَارات التي حاولتْ الإيحَاء بأنّ بشّار الأسد غيْر راضٍ عنْ مُمَارسة العنْف تجَاه المُتظاهرين السِّلْميين، لكنّ ذَلك لمْ يَمْنع حَمَلات الإعْتقال، التي تَرافقَت معْ ظهُور المُنْدسين، وهمْ عَنَاصر مَجْهولة الهويّة زَرعها النّظام، تَحْمل أَسْلحة فَرْديّة وتُشارك المُتَظاهرين مُظاهراتهم ليُعَاد إظْهَارها على القَنوات التّلفزيونية بعْد اعْتقالها بُغية َسْرد رواياتها عنْ الأعْمال العنْفيّة المُسلّحة في التَّظاهرات، ولمْ يكُنْ خفيّاً على السّوريين، وخُصوصاً مُنظّمي التَظاهرات (التَّنْسيقيّات ) أنّ هَؤلاء المُنْدسين عُملاء تمّ تَجْنيدهم منْ قبَل المُخابرات السُّورية.
ولكنْ في حَقيقة الأمْر، وبعْد ثَلاثة أَشْهر منْ انْطلاق الانْتفاضة، بَدأتْ تَظْهر عَلائمَ ذات دَلالات خَاصّة على الجَسد المُنْتفض، وأَخذت تَعْبيراته الإعْلاميّة تُشير إليْه، بدْءأً منْ إطْلاق أَسْماء ذات مَدْلول دينيّ إسْلاميّ على عَدد لا بأْس بهِ لأيّام الجمْعة- الذي كانَ الرَّمْز الأَساسيّ للانْتفاضة- وتتّضح الصّورة تَماماً في يوْم الجمْعة السّابع من تشْرين الأوّل عام 2011، عنْدما رَفع المُتظاهرون شعَارَ (المَجْلس الوَطنيّ يُمثّلني )، وهُنا ظَهر للعَلن أنّ هُناك قوّةً سياسيّة لَها تَأْثيرٌ كَبيرٌ على الشَّارع، وهو المَجْلس الوَطنيّ المُتكوّن أَساساً منَ الإخْوان المُسْلمين. وتَتابع ظُهور التَّأْثير المُباشر للمَجْلس الوَطنيّ حين أَخَذت الشِّعارات تَتكرّر بصيَغ غَريبة عنْ شعْبٍ يُنادي بحرّيته مثْل ( تركيا تُمثّلني، وقَطر تُمثّلني)، والمُثْبت أنّ كلْتا الدَوْلتين تبنّتا للتّيار الإخْواني فيمَا يَخصّ الانْتفاضة السُّورية. وفي حَقيقة الأمْر، ظَهر في وَقْت سَابق عنْ الإِعْلان عنْ جمْعة (المَجْلس الوَطنيّ يُمثّلني) تَسْمية إحْدى الجمَع بـ ( لا للحوار)، وذَلك في الثَّامن منْ تمّوز منْ ذات العَام؟ فكَيْف لشَعْب مُنْتفض أنْ يَحْصل على حُقوقه وهُو رَافض أنْ يُحَاور منْ سَلبه حقوقَه؟ إذاً أَمِن هذا الشَّعب أنّ النّظام سَيسْقط بالقوّة العَسْكرية.
فمِن أَيْن أَتاه هَذا الاعْتقاد وهُو مُدْركٌ أنّ النِّظام مُدجّج بالسّلاح، وهَزيمته عَسْكرياً لنْ تتمّ عبْر بعْض البَنادق التي حَصَل عليْها قسْم منَ المُتظاهرين أوْ المُنْشقين؟ وهذا كانَ دَليلاً على أنّ الإخْوان المُسْلمين، وفي مَرْحلة مبكّرة على تَأْسيس (المَجْلس الوطنيّ في الأوّل منْ شهْر تشْرين الأوّل منْ 2011)، كانوا قدْ بَدؤوا بوَضْع ثقلهم في الأَحْداث الدَّائرة في سُورية، وبَدؤوا بتَوْجيه الانْتفاضة إلى الزّاوية التي يَعْتقدون أنّها ستَكون رأْس الحَرْبة لبِدْء تَحْقيق حلْمهم بـ (اسْتلام السّلطة). واسْتطاعوا إقْناع المُنْتفضين السُّوريين بأنّ هذا هُو الحلّ الوَحيد والمَضْمون. وفعْلاً، اقْتنعتْ قطاعاتٌ واسعةٌ منَ الشّعْب السُّوريّ المُنْتفض بالرّواية كَاملة، وذَلك تَحْت تَأْثير ضَغْط النّظام الذي أخَذ يُصعّد في فعْله الدّمويّ، والإغْراء المَاليّ الذي بَدأ يَتدفّق عنْ طَريق الإخْوان المُسلمين. وبَدأ الإخْوان المُسْلمون بحبْك خطّتهم المُسْتندة على إسْقاط النّظام بالقوّة عبْر التَّدخل الخَارجيّ مَع إقْصاء أيّ طيْف مُعارض آخر، وهَذا مَا رَأْيناه حينَ أَفْشل الإخْوان نَتائج مُؤْتمر القَاهرة في أوَاسط عَام (2012) والذي نَتج عنْه وَثيقة العَهْد الوَطنيّ للمَرْحلة الانْتقالية، ومَا حَملتْه منْ آمالٍ للسّوريين لأنّها تَضمّنت
ولكنّ الحَقيقة الكَارثيّة التي تبيّنتْ لاحقاً، هي أنّ الإخْوان المُسْلمين لمْ يَتلقّوا أيَّ تَأْكيد منَ الدُّول القَادرة على إسْقاط النِّظام عَسْكرياً. وبَنوا أَحْلامهم على اسْتقرائهم لمَا حَدث في ليبْيا، وسَاقوا الشَّعْب السُّوريّ وَراء وُعودٍ كَاذبة، كانَ منْ نتَائجها المُباشرة على الأرْض تغيّر مَسار الانْتفاضة بشَكْل شبْه جذْريّ، منْ انْتفاضة ذَات طُروحات ديمقراطيّة تَتماشى مَع القَوانين الدّوْليّة، إلى انْتفاضة ذات وجْه إسلاميّ مُتشدّدٍ مُسلّح يَرْفض كلّ الشّرائع المُتّفق عَليْها عَالميّاً، ويُحَارب أيْ طَرفٍ مَدنيّ ديمقراطيّ. ومنْ جهَة ثانية، أُصيب الشَّعب السُّوريّ بإحْباط شَديد، وبَدَلاً منْ تَوْجيه لَومه إلى منْ كَذب عليْه بالوُعود (الإخْوان المُسلمون)، أَصْبح كَارهاً وحَاقداً للمُجْتمعات الغربيّة وحُكوماتها، كمَا وأنّه فَقد القُدْرة عَلى التَّحْليل المَنْطقيّ، إذْ أَصْبح يُطالب حُكومات العَالم بإتّخاذ مَواقف تَعْتبر مَصْلحة السّوريين أَوْلويةً على مَصالح شُعوبها.وهذا الوَهم الذي زَرَعه فيه الإخْوان المُسْلمون جَعله في موْقع المَصْدوم دَوْماً، إضَافةً إلى وُقوعه تَحْت تَأْثير الفعْل المُباشر للتّنْظيمات الإسْلاميّة الرَاديكاليّة التي في أَحْيان كَثيرة تَكون أَشدّ فَتْكاً منَ النّظام القَائم فيما يَخصّ مَفْهوم الحرّيات وخَاصّة الشّخْصية، ومَا التَّقارب الإيرانيّ- التركيّ الحَالي ومَا مثّله منْ دَهْشة مُسْتنكرة منْ سوريي الانْتفاضة إلاّ مثَالاً على حَجْم الأَذية التي أَصَابت السُّوريين، وجَعَلتْهم غيْر قَادرين عَلى فَهْم تَقاطع المَصالح الدَوْليّة العَالميّة. والمُصيبة لمْ تَزلْ مُسْتمرة بإصْرار الإخْوان المُسْلمين على الاسْتمرار في اسْتثْمار دمَاء السُّوريين للوُصول إلى حلْمهم في اسْتلام السُّلطة.
اضف تعليق