وائل زيدان
يحدث في التّاريخ أن يُقدِم ملكٌ من الملوكِ، أو أحدُ الفراعنة، على تسجيل اسمه بعناية فوقَ صَرْحٍ حَجريٍّ ضخم قام سَلَفُهُ بتشييدهِ. أو يزعم لنفسهِ الانتصار في حربٍ جَرَت قبل ولادتهِ، مسكوناً بهاجسِ المجد والشّهرة والخلود. ثمّ تنطلي الحيلةُ على الأجيال اللّاحقة، حتّى يتقدّم عِلم التاريخ ليتكبّد علماء الآثار جهوداً مُضنية بالحفريات لكشف هذا التّزوير.
ونقرأ في التّاريخ أيضاً، عن ثورات عظيمة سُرِقَت ونَسَبَها أفرادٌ طارئون لأنفسم، وليس بعيداً إن صَحّ التّشبيه تتويج نابليون لنفسهِ امبراطوراً على الشّعب الفرنسيّ بعد ثورة طاحنة كلّفت من الدّماء والأرواح ما كلّفت. أي أنّ الملكيّة التي انتفض الفرنسيون ضدّها، عادت واستلمت السّلطة باسم الثّورة!.
في كلّ دول الرّبيع العربيّ، كان هاجسُ سرقةِ الثّورة من قبل بعض القوى هنا وهناك أمراً حاضراً على الدوام، وهو مطروحٌ في الحالة السّورية بشكل أكبر، لكن أن يكون بشّار الأسد طرفاً من الأطراف التي تتزاحم على جني ثمار الثّورة وسرقتها لهو أمرٌ مُستغرب، لأنّنا في هذه الحالة سنكون أمام أوّل ديكتاتور ينسب لنفسه القيامَ بثورة قامت ضدّه، ويعمل في ذات الوقت على سحقها والقضاء عليها بكافة الأساليب الوحشيّة!.
يعلم بشّار الأسد منذ البداية مدى التّأثير السّحريّ الواسع لكلمة «ثورة»، سواء في الأدب أو في وجدان الشّعوب، لذلك لم يجرؤ أبداً على مهاجمة هذه الكلمة السّحرية في أيّ خطابٍ أو حوارٍ له. ودعونا لا ننسَ أنّه ممّن يعتبرون أنفسهم سليلي أسرة يحفل تاريخها بالثّورات، كما تجهد وسائل إعلامه على تذكير النّاس بهِ طيلة سنوات الحكم، من ثورة الثّامن من آذار إلى الحركة التّصحيحيّة المجيدة.
ففي أوّل خطابٍ له من داخل مجلس الشّعب بعد الثّورة، لم يهاجم كلمة ثورة، ولم يجنَحْ إلى تفكيك المصطلح كعادتهِ حين يُلقي خطاباً، لكنّه نفى صِفة الثّورية عن الأحداث كمقدّمة أولى، وحتّى يُطَمْئِن جمهورَهُ المذعورمن انتشارها الغير مسبوق سيقول: «اليوم هناك صرعة جديدة هي ثورات بالنّسبة لهم، ونحن لا نُسمّيها كذلك…هي حالة شعبيّة بمعظمها..»، وطبعاً سيكون مُصطَلح «الحالة الشّعبية» الذي أطلقهُ لهم سيادتهُ هو جسر عبور لكلمة «إصلاح» التي سيستفيض ويُسهِب بشرحها وتكرارها لمساعدتهم بالابتعاد عن كلمة «ثورة» وسحبها من التّداول اليوميّ «إذا كان هناك فعلاً دعاة للإصلاح وكلّنا أعتقد دعاة للإصلاح، فسنسير مَعَهم من دون أن نعرف ما الذي يجري». إنّ رعبهُ من قيام ثورة ليس هو قائدها، كان واضحاً في تلك العبارة. ليصل بجمهورهِ في النّهاية إلى أنّ ما يحصل هو فِتنة، ولا يخفَى على أحدٍ المدلول الديني لكلمة فتنة «وأد الفتنة واجب وطنيّ وأخلاقيّ وشرعيّ».
سيكون الخطاب الذي أدلى بهِ على مدرّج الجامعة ١٠-٠١-٢٠١٢ هو أوّل خطابٍ يحمل إشاراتٍ تدلّ على نيّتهِ بالسّطو على كلمةِ ثورة، إذ يقول فيه: «لقد بحثوا في البدايةعن الثّورة المنشودة، فكانت ثورتكم ضدّهم وضدّ مُخرّبيهم وأدواتهم، وهبَّ الشّعب منذ الأيام الأولى قاطعاً الطريق عليهم وعلى أزلامهم»، هنا ظهرت أولى محاولاته لمحو التّاريخ كما سنكتشف لاحقاً، وذلك بإطلاق صفة ثوّار على أزلامهِ ومؤيّديه، إذ أنّ سحب كلمة ثورة من التّداول أمرٌ مستحيل، وطبعاً هذهِ تقتضي شرحاً لأنّها صادمة بالنسبة لجمهورهِ الذي لم يهبّ منذ البداية إلاّ لضرب المتظاهرين وإخماد الثّورة!، وجهّزوا أنفسهم للنّيل من الذين ينطقون بتلك الكلمة في الشّارع، حتّى أنهم بدأوا يُسمّونها «فَورة» على صفحاتهم، لذلك هو لم يبخل عليهم بالشّرح في كيفيّة أن يكونوا شبّيحة وثوّاراً في آن معاً، فيقول: «عندما ننتقل من الاستقلال الأول وهوالتّحرير الأول الذي حَصَلَ عندما جلا المستعمر عن أراضيها.. ننتقل إلى الاستقلال الثّاني وهو استقلال الإرادة»، إذن، هم عندما يواجهون المظاهرات بالعصيّ، والاعتقال، والرّصاص الحيّ، فإنّهم يقومون بثورة لطرد المُستعمر. هذهِ المُماثلة لم تكن عفويّةً أبداً، كما سيتّضح لنا من خطاباتهِ التّالية، لأن بشّار الأسد مُصمِّمٌ منذ البداية على قلب الحقائق رأساً على عقب لصالحهِ، خاصّة أنّه وصل إلى السّلطة بدون مُقدّمات يتغنّى بها، بل اعتمد على إرْث أبيه، وقد وجدَ الفرصة سانحة في الثّورة السّورية.
سيركّز بشّار الأسد على هذه النّقطة أيضاً في خطاب دار الأوبرا: «في البداية أرادوها ثورةً مزعومة.. فثار الشّعب عليهم حارماً إيّاهم من حاضنة شعبيّة»، إنّ استخدام كلمة شعب هنا جاءت دلالة على العموم والكثرة ضدّ قلّة قليلة أجنبية. لكنّ الشبّيحة الذين أصبحوا شعباً ثائراً في خطابهِ، جاهزون لفهم معنى كلمة ثورة، الأمر الذي جعله لا يتوانى عن شرحها لهم «الثّورة بحاجة لمُفكرين.. الثورة تُبنى على فكر.. فأين هو المُفكّر.. مَن يعرف مُفكِّراً لهذهِ الثّورة.. الثّورات بحاجة لقادة.. مَنْ يعرف مَنْ هو قائد هذه الثّورة.. الثّورات تُبنى على العِلم والفِكر، لاتُبنى على الجهل.. تُبنى على دفعِ البلاد إلى الأمام لا إعادتها قروناً إلى الوراء.. تُبنى على تعميم النّور، على المجتمع لاعلى قطع الكهرباء عن النّاس.. الثّورةعادةً، ثورة الشّعب لا ثورة المُستَورَدين من الخارج لكي يثوروا على الشّعب.. هي ثورةٌ من أجل مصالح الشّعب ليست ضدّ مصالح الشّعب. فبالله عليكم، هل هذهِ ثورة وهل هؤلاء ثوّار!، إنهم حفنة من المُجرمين». يستبطن هذا النّص، بأنّ المُفكّر هو بشّار الأسد، أمّا الفكر فهو بالطبع فكر حزب البعث، وأنّهم هم الثوّار الحقيقيّون، وهو قائدهم.
في خطاب القسم الأخير، أدّلة نهائيّة على جِدّية الرّئيس السّوريّ بطمس التّاريخ، وسرقة الثّورة من أصحابها. فلقد بدأ خطابهُ الذي أدلى بهِ في قصر الشّعب بمقتطفات من هُتاف المتظاهرين الذين خرجوا ضّدهُ، وكأنّي بهِ يحسدهُم عليها منذ سَمِعها أول مرّة، فراح ينسبها لشبّيحتهِ. أولئك الذين كانوا يهرعون لمحوها عن الجدران، ومارسوا أشدّ أنواع التّنكيل بقائليها: «عندما قال البعض نيابةً عنكم “الشّعب يريد” نعم الشّعب أراد، الشّعب قرّر، قالوا “إنّ الشّعب السوريّ واحد”.. فوقفتم في وجه إعصار فِتنتهم، صَرَخوا “بأنهم لن يركعوا إلا لله” فما ركعتم لسادتهم، ولا استسلمتم، ولا سلّمْتُم … فهنيئا لكم ثورتكم وانتصاركم»..ويبدوا أنّ قصّة ثورتِهم وطردِهم للإستعمار ليست كافية للمستقبل إذا ما قُيّض لبشّار الأسد أن ينتصر، ويُسجّل هو تاريخَ هذهِ المرحلة على هواه. لذلك لا بدّ من التّفتيش عن إنجازٍ ثوريٍّ آخر، فلم يجد أمامهُ سوى الإنتخابات الأخيرة ليضعها ضمن إنجازاتهِ العظيمة: «لم تكن تلك الانتخابات مجرّد عمليّة سياسيّة إجرائيّة كما هو الحال في أي مكان في العالم.. بل كانت معركة كاملة الأبعاد.. سخّرت كلّ المعارك الأخرى من أجل ربحها…». واستغرق تبيان وشرح أهميّة هذا المُنجَز 1034 كلمة من خطابه. وطبعاً لم ينسَ أن يُذكّر شبيحتهُ بإنجازهم السّابق في طرد الإستعمار، وبالحديث عن إعادة الإعمار ستكون القصّة قد اكتملت مع الدّيكتاتور الثّائر!.
اضف تعليق